اسوار نت - حرية سقفها السماء
أن تعرف اولا

إنما الدنيا حكاية .. لم يفت الاوان «الجزء الأول»

1٬052

بقلم: حنان بدر الرومي

[email protected] 

تمضي السنوات مسرعة.. جيل يسلم الأمانة للجيل الذي يليه.. أصبحوا ماضيا، كما أصبح الحاضر حاضرا، أما المستقبل فبعلم الغيب.. ولكن يظل لكل زمان أهله وحكاياتهم التي نسجوها.. منها ما كانت البسمة عنوانه وأخرى صاحبت الألم وبعضها عزفت بألحان المشاعر الإنسانية المتنوعة.

سلسلة جديدة من الحزاوي ستأخذنا أحيانا للزمن الماضي بكل عبقه الجميل، كما ستحط بنا الرحال في وقتنا الحاضر لنروي حكايات أشخاص حقيقيين ومن جنسيات متعددة، منهم من رواها لي بنفسه والبعض، الآخر وصلني من المقربين منهم أو ممن عاصروهم.. حكايات متنوعة نستقي منها العبر والدروس التي لا تحصى.. وتظل الدنيا حكاية.

مدينة الكويت.. منطقة الدعية السكنية سنة 1968م……

نزل من السيارة وعيونه تتلألأ فرحا لانتهاء غربته فما أعذب العودة للوطن والأهل والأصحاب.. ودع عبدالله لوعة الاغتراب واجتهاد الدراسة وسهر الليالي بين الكتب والمراجع انه يستنشق الآن بسعادة رائحة الوطن والأهل.. بين برق السيوف وضرب الدفوف رقص فرحا.. صدى انغام الفرقة الشعبية التي أحضرتها والدته للغناء أمام المنزل جذب الكثيرين للحضور فشاركوهم الفرح بحصوله على شهادة البكالوريوس في الصيدلة.

سعى عبدالله بعد يومين فقط من رجوعه للقيام بجميع الاجراءات المطلوبة لتصديق شهادته واعتمادها كما تقدم للعمل في وزارة الصحة.. انه يعلم بمدى فخر والديه فهو الوحيد في العائلة وفي الفريج الذي يحمل شهادة الصيدلة لكن فخرهم لا يعني أبدا أن يكون عالة عليهم.. فهم من عائلة متوسطة الحال والآن أتى دوره ليتحمل مسؤولية نفسه.

٭ ٭ ٭

عين عبدالله للعمل في مستشفى الأميري.. كان حريصا على اقامة علاقات طيبة مع الجميع وبالذات مع رؤسائه المباشرين.. تميز بالدقة في عمله والالتزام وحسن الأخلاق والرغبة الحقيقية في التعلم وسعة الصدر في التعامل مع المرضى.

بعد مرور أشهر على عمله قام بشراء سيارة ولحرصه عليها قام بركنها عند الباب الخلفي للبيت.. في أحد الأيام وبينما هو جالس بتملل داخل السيارة ينتظر أن يكتمل تسخينها ليقوم بقيادتها.. شاهد فتاة جميلة ترتدي ثياب الثانوية وبيدها حقيبتها المدرسية تخرج من بيت جارهم المقابل لمنزلهم من جهة الخلف.. شعر بإحساس قوي جدا وكأنه يحلق في السماء بخفة.. كان قلبه يدق بقوة وقد علت الابتسامة وجهه وعينه مركزة على بيت الجيران حتى غادرت السيارة المكان.

منذ ذلك اليوم ولأشهر عدة حرص عبدالله على الخروج صباحا حتى وان لم يكن موعد دوامه ليشاهد بنت الجيران، كم من مرة اقترب من السيارة ليحادث الأب أو الاخوة ويسترق النظر لها عن قرب.. لاحظ براءة الصبية وخجلها فهي لم تعره أي اهتمام كان تركيزها دائما اما على الكتاب الذي بيدها أو بالحديث مع أحد اخوتها.. كان وجهها الجميل ذو الملامح الدقيقة وشعرها الأسود الطويل لا يفارقان مخيلته.. استطاع بالحديث مع شقيقاته أن يعرف اسمها منى وأنها آخر العنقود وتكبرها شقيقتان متزوجتان أما اخوتها فيعرفهم جميعا وهي تدرس بالصف الثاني الثانوي.

دخل عبدالله في نقاش ذاتي طويل مع نفسه فالفتاة صغيرة وهو يريد زوجة تفهمه وتتفهم طبيعة عمله كما انها لاتزال في مقاعد الدراسة وزواجها يعني توقفها عن التعليم.. لكن قلبه كان يرفض ذلك فالفتاة جميلة وقد تتزوج ويخسرها.. حسم رأيه بالتقدم لخطبتها خصوصا أن والدته تلح عليه للزواج، أما التعليم فسيتفق معها على تأخير الانجاب حتى تنهي الدراسة الثانوية وسيساندها حتى تحصل على الشهادة الجامعية أيضا.. ارتاح قلبه لهذا الحل.

٭ ٭ ٭

في اليوم التالي دخل صالة المعيشة ووجد والديه يحتسيان شاي العصر.. جلس معهما وأخذ يتناول قطعة من بسكوت التمر الذي أعدته والدته.

تبتسم الأم وبنبرة حانية تقول: يا بني إلى متى ستؤجل الزواج والجميع يتمناك؟

يجد عبدالله أن الفرصة أصبحت متاحة فيسرع بالرد: صحيح الزواج هو سنة الحياة ولكني أريد التقدم لفتاة معينة.

يضع الأب الاستكانة على الصينية وبتجهم يسأل: وهل نعرف هذه الفتاة؟

بفرح يذكر عبدالله اسم الفتاة ومن تكون.. ليفاجأ بثورة والده ورفضه التام لذلك.. يخرج الأب من الصالة وهو في حالة غضب شديد.

ترتسم ملامح الحيرة على وجه عبدالله فيوجه حديثه لوالدته الصامتة: أمي وهل في الفتاة أو أهلها ما يعيب؟

تحني الأم رأسها بألم ثم ترفعه وهي تتابع ابنها بنظرات حنونة: لا يا بني.. الفتاة وأهلها من أفضل الناس ولم نسمع أو نشاهد منهم طوال العمر الذي عشناه معهم كجيران الا كل خير.

عبدالله بألم: اذا لماذا يصرخ والدي هكذا.. ولماذا الرفض؟

الام بهدوء: لأن والدك يريدك أن تتزوج من ابنة أخيه وقد حجزها لك منذ عام مضى.

تصدم الكلمات عبدالله.. يشعر بأن رأسه يدور وأن أنفاسه تضيق وكأنه سيختنق.. يرمي الغترة والعقال على الأرض ويفتح ازرار الدشداشة العلوي: ولماذا يفعل أبي ذلك ألست صاحب القرار؟

بصوت بانت عليه معالم التهدئة: والدك يريد لك الخير.. فأنت شرفتنا والجميع يتمناك وعمك هو أخو والدك الكبير وابنته أحق من الغريبة.

يصرخ كالملسوع: أختي تزوجت بموافقتها ومن غير العائلة فكيف أنا.. ألست رجلا أختار بإرادتي ـ يبتسم بسخرية ويقول: يبدو أن والدي لايزال يراني الطفل الصغير الذي في الروضة ويريد أن يلهيني بما يشتريه لي.

٭ ٭ ٭

كابوس حقيقي يعيشه عبدالله.. أصبح كثير الصمت في العمل وفي البيت.. كان يطرح الأسئلة على ذهنه بتوتر وغضب ولكنه لم يجد جوابا شافيا.. والدته تراقبه بخوف ممزوج بالحب أما الأب فكان كالبركان.. أمر الأب الأم أن تذهب للجارة وتحدثها وتهددها أيضا.. قامت الأم بذلك على مضض.. بعد أقل من شهر تزين بيت الجيران بزينة الفرح وانتشر خبر قرب زفاف منى بنت الجيران.

في يوم الفرح أغلق عبدالله باب التعقل وقف أمام البيت من بعد صلاة العشاء وانتظر لساعات حتى شاهدها تخرج مع عريسها بفستان الزفاف الأبيض وتركب السيارة إلى جانبه ووجهها كالبدر من شدة الفرح،، شعر بأن قلبه يكاد أن يتوقف..غادرت السيارة المكان وابتعد هو عن الباب بعينين دامعتين.. نقل سيارته للباب الرئيسي.

٭ ٭ ٭

تزوج من ابنة عمه وجاهد ليطوي صفحة الماضي وأن يتعايش مع زوجته ويركز في عمله.. أنجبت زوجته ثلاثة أولاد وبنتين.. اشترى بيتا صغيرا في منطقة القادسية ورممه.. في الزيارة الاسبوعية لبيت الوالد جلست النسوة معا يتجاذبن أطراف الحديث فذكرت الشقيقة الكبرى رغبتها في شراء بيت الجيران المعروض للبيع بعد وفاة الأب واستقرار الأم عند ابنها الأكبر لتكون قريبة من بيت والدها.. ومع اندماجها بالحديث ذكرت أن عبدالله كان يرغب في الزواج من ابنتهم منى ولكنها تزوجت قبل أن يتقدم لها.. نزل كلامها كالصاعقة على زوجة عبدالله التي انتفضت من على مقعدها بحدة واضحة جعلت الجميع يصمت بخوف.

٭ ٭ ٭

انقلبت حياة عبدالله وأصبح الشجار مع زوجته أمرا عاديا فقد تملكتها الغيرة المجنونة.. أخذت تكيل الاتهامات له كلما وجدته ساهما أو صامتا أو عندما ينسى أمرا ما كانت تتهمه دائما بأنه يحب منى ولا يريدها.. حاول عبدالله أن يطمئنها ويهدئ من نفسها المنفجرة ولكن بلا فائدة.. حتى الفيلم السينمائي ان كان اسم البطلة منى فهي تترك العرض.. منعت بناتها من مصاحبة أي فتاة بهذا الاسم.. وبلغت بها الوساوس باتهامه بعلاقات مع أخريات وهو بريء من ذلك.. تركت البيت أكثر من مرة وأصبحت هلوساتها المجنونة متعبة للجميع.. تعب والداها ووالدا عبدالله من محاولات الاصلاح المتكررة.. عندما لم يجد عبدالله أي فائدة من اقناعها باخلاصه وحرصه على استقرار حياته الزوجية بدأ باتباع سياسة الصمت داخل المنزل وترك لها أن تفعل ما تشاء.. واخذ يركز في عمله خصوصا بعد أن تولى منصبا مهما.

٭ ٭ ٭

اتفق عبدالله مع أحد الدكاترة على تأسيس شركة للأدوية وبخبرته حدد الأصناف وقام بالسفر وابرام العقود كما قاما بتأجير مخزن للأدوية.. أخذ اجازة لتجهيز مكاتب الشركة واختيار الموظفين والموزعين.. سهر لساعة متأخرة في الليل في بيت شريكه الدكتور لانتقاء عدد من المتقدمين للعمل.. وفعلا تم تحديد مجموعة على أن يقوم بابلاغهم في اليوم التالي بمواعيد المقابلة الشخصية حتى تتم التصفية النهائية.. رجع للبيت منهكا ووضع الحقيبة الجلدية على المكتب ودخل لينام.

٭ ٭ ٭

استيقظ متأخرا وجلس لتناول الافطار وزوجته بجانبه تحدثه عن مشاكل الأبناء واحتياجات المنزل.. بعد أن تجهز دخل لغرفة المكتب وتناول الحقيبة الجلدية.. فتحها ليتأكد من احدى الأوراق.. صدم عندما وجد الحقيبة فارغة واستمارات العمل غير موجودة.. ركض مسرعا للسيارة أخذ يبحث في كل مكان.. رجع لغرفة مكتبه بحث في كل مكان بلا طائل.. أخذ ينادي زوجته كالمجنون وسألها بشيء من الشك: هل دخلت الخادمة لغرفة المكتب؟

أمام نظراته المتسائلة أجابت: تبحث عن الأوراق التي بها صور لنساء لقد رميتها بالزبالة.

أمسك عبدالله بثيابها بقوة وأخذ يجرها لتريه مكان الزبالة.. وجدها مركونة عند باب البيت.. فتح الكيس الأسود وأفرغ محتوياته على الأرض.. أخذ يبحث بين القمامة عن أوراقه.. وجدها قصاصات ممزقة.

صرخ مفرغا ما في قلبه من غضب: لماذا فعلت هكذا؟

نظرت اليه بنظرة خبيثة قائلة: وهل تريدني أن أشاهد صور النساء وأقرأ عناوينهن وأسكت.. لن أتركك تتلاعب فيني.

ارتجف جسده بقوة واخذ العرق ينهمر بغزارة قال بلوعة وقهر: لقد قطعت عمل أشهر بخيالاتك المريضة.

نظرت له بصرامة وأشارت للقصاصات الورقية: أيها المخادع تضع صور الرجال مع صور النساء للتمويه.. هل تعتقد أنني مغفلة ولا أفهم ألاعيبك؟

قال بحسم وهو يجاهد لتمالك أعصابه: أظن أن صبري قد نفد تماما.. أنت طالق.

تصرخ زوجته وهي تتوعد وتشتم بأقذر الشتائم.. يبذل عبدالله جهدا خارقا للمحافظة على هدوء أعصابه.. يلملم حقائبه ويأخذ أوراقه ثم يغلق الباب وراءه.

٭ ٭ ٭

يرجع لبيت والديه صامتا حزينا.. يترك المنزل لها ولأبنائه.. يتألم والداه لحاله ويشعران بالذنب حياله.. ومما يزيد الطين بلة أن زوجته هددت أبناءها بمقاطعة من يزوره وأن عليهم اعتباره ميتا.. ولكن أصالة عبدالله منعته من اللجوء للقضاء فترك الأمر بيد والديها اللذين اعلنا فشلهما التام أمام جنونها المتزايد.. حرص عبدالله على تسليم مصروف البيت والأبناء لعمه الذي يسلمه بدوره لطليقته.. لم يبخل يوما على أبنائه بالمال كان يزيد من مبلغ المصروف في فترات المواسم والمناسبات حتى ان عمه قال له بالحرف الواحد: كم أشعر بالخجل أمامك ويؤسفني جنون ابنتي انها لا تستحق انسانا رائعا مثلك.

طلب عبدالله منه رؤية أبنائه ولكن ما باليد حيلة.. كان يراهم في المناسبات العائلية فقط.. مرت السنوات وعبدالله يعيش وحيدا.. يعوض حزنه بالاجتهاد في عمله وتصبح شركته من أشهر شركات الأدوية المحلية.. يستقيل من عمله الحكومي ويكتفي بادارته للشركة.. يتحسن وضعه المادي كثيرا ويصبح من ذوي الأملاك.

يتبع الجزء الثاني

اضف رداً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com